سلسلة حكايات يومية عادية.. حكاية 6: “النداهة”

كنت في آخر سنة ليا في الكلية.. لسه مخلصين مشروع التخرج.. فيلم وثائقي عن قبيلة العبابدة في جنوب مصر.. الفيلم كسب جايزة أحسن إخراج وتصوير في الكلية عندنا، بس عادي يعني هو كان في منافسة مع 4 أفلام تانية بس، وتم اختياره وعرضه في كذا مهرجان سينمائي برا مصر، بس كلها مهرجانات بير سلم يعني، محدش سمع عنها قبل كده.. بس برضه كان إنجاز عبيط كده الواحد فخور بيه.. وبسبب الفيلم اتعمل معايا لقائين في التلفزيون.. واحد في مدينة الإنتاج.. وواحد في ماسبيرو.. خلينا في لقاء ماسبيرو ده.

صاحي بدري.. لابس الحتة اللي على الحبل.. وحالق شعري ومظبط نفسي.. مع إني رايح ماسبيرو يعني.. أكيد قناة محدش بيفتحها وبرنامج محدش بيشوفه ولقاء تلفزيوني محدش هيتفرج عليه غير زمايلي اللي معايا في المشروع.. مش صحابي وأهلي أو أي حد تاني في المطلق.. أنا مش هصحّي حد الصبح بدري عشان يفتح التلفزيون المصري يتفرج عليا.. أنا ذات نفسي ماعملش كده لنفسي.  

خلصت اللقاء.. ونزلت من ماسبيرو وكنت هروح لواحد صاحبي ساكن في أول شبرا مصر.. وحسيت إني عايز اتمشى شوية فقلت هتمشى في شارع رمسيس لحد ما أوصل لبيته ولو تعبت هركب حاجة.. كده كده مفيش حاجة ورايا.. وأثناء منا بتمشى ناحية ميدان رمسيس.. لقيت حد بينادي عليا: “يا كابتن.. يا كابتن”.. بصيت لمصدر الصوت لقيت ست تقريبا أربعينية لابسة عباية سودة بسيطة.. قاعدة على الرصيف وقدامها كرتونة عليها كام باكو مناديل.. قربت منها أشوف عايزة إيه.. ست وشها بشوش جدا وملامحها طيبة جدا.. وطيت عشان أبقى على نفس مستوى نظرها.. لقيتها بتقولي: “إنت كويس؟ طمني عليك!”.. وهنا بقى أنا تنحت شوية.. كنت متوقع: “حاجة لله”.. أو أي دعوة مقابلها فلوس.. ومجهز محفظتي اللي هطلع منها الفلوس والرد اللي معاها: “ربنا يسهلك”.. فقولتلها “أنا تمام الحمدلله.. إنتي طمنيني عليكي”.. فبدأت تتكلم.. ومع كلامها محسيتش بنفسي غير وانا بقعد جنبها على الأرض ومركز في كل كلمة بتقولها وبتفاعل معاها من كل قلبي..

كلمتني عنها.. وعن ابنها.. بتحب ابنها أوي وفخورة بيه ونفسها يشتغل عشان ماكنش لاقي شغل وقتها -أتمنى يكون لقى شغل دلوقتي وإنت بتقرأ الكلام ده- كل ده بقى وأنا مستني الخدمة اللي هتطلبها مني.. ولو كنت أقدر أساعد ماكنتش هتأخر أكيد.. بس هي ماطلبتش خدمات.. كانت بتحكي وبس.. كلمتني عن عيلتها.. والشارع اللي ساكنين فيه.. والبيت.. والجيران.. كلمتني إنها عايشة لابنها.. بتعمل كل حاجة في الدنيا عشانه.. نفسها تفرح بيه وتأمنله مستقبله وتشغله وتجوزه.. ويعيش أيام أحسن من أيامها.. “بفكرها بيه”.. نفس السن ونفس الملامح.. ونفس المشية السرحانة في الشارع اللي هو بيمشيها.. يمكن عشان كده نادت عليا؟ عشان فكرّتها بابنها؟

الناس اللي بتعدي قدامنا في الشارع عمالين بيبصولنا نظرات باستغراب.. وأنا مش مركز مع أي حد وأي حاجة.. كل حواسي معاها.. باصصلها ومركز معاها ومركز في كل كلمة بتقولها.. يمكن بتحكيلي كل ده عشان محدش بيسمعها؟ أو محدش فاضي يسمعها؟ أو محدش قادر يسمعها؟ كل شوية تعتذرلي إنها مصدعاني.. أو إنها معطلاني.. وأنا كل شوية أقولها أنا مش متعطل عن حاجة.. مفيش حاجة ورايا.. هو أنا كنت نازل من ماسبيرو رايح فين؟ مش مهم.. كمليلي الحدوتة بقى.. 

حسيت إني أعرف الست دي من زمان.. حسيت إنها عارفاني من زمان.. حسيتي إني أعرف ابنها وحاسس بيه وبمعاناته في إنه يلاقي شغل ويصرف على نفسه.. حسيت بخوف أمي عليا وإنها عايشة عشاني ونفسها أبقى أحسن حد في الدنيا.. حسيت إني مش عايز ده يبقى آخر لقاء بيننا وعايز اشوفها تاني وأساعدها باللي أقدر عليه.. إنشالله لو اللي هقدر عليه ده هو إني أسمعها..

محسيتش بالوقت.. وخلصنا كلامنا.. قالتلي خد بالك من نفسك.. حضنتني.. بوست راسها.. وقومت.. جريت أشوف أي ATM أسحب منها مبلغ محترم ليها.. وبالمرة أديها رقم موبايلي لو احتاجت أي حاجة تتصل بيا.. ومتأخرتش فعلا أقل من 5 دقايق ورجعت.. لقيتها اختفت.. مش موجودة ولا الفرشة موجودة وببص عليها يمين وشمال وحوالين المكان اللي كانت قاعدة فيه.. ملهاش أي أثر.. 

عدى سنين وكل ما بعدي من شارع رمسيس ببص بعيني كده على المكان اللي كانت قاعدة فيه يمكن ألاقيها.. بس ولا مرة كانت موجودة.. تلك “النداهة” الجميلة اللي ندهت عليا فنسيت اللي ورايا واللي قدامي وقعدت أسمع قصصها وحكاويها.

Related Articles

Back to top button