“أنا قادم أيها الضوء”.. عن محمد أبو الغيط والنور اللي سابهولنا
كتب: عمر هشام
“اندهشت بينما أنظر لحياتي عن بُعد من مدى ثرائها؛ حياة قصيرة، ثلاثة وثلاثين عاماً، لكنها اشتملت حيوات عدة. عشت في صعيد مصر، وانتقلت إلى القاهرة، ثم إلى لندن. عملت طبيباً، ثم انتقلت إلى الصحافة المحلية، ثم إلى الدولية. وقد صادف ذلك مرحلة تاريخية نادرة للغاية، بوقوعي في قلب أحداث الربيع العربي. ذات يوم، لم يكن بجيبي جنيه مصري واحد، وذات يوم آخر، كان حسابي البنكي عامرا بعشرات الآلاف من الدولارات. في أوقات، حاولت شرح أفكاري لفلاحين في قريتي بصعيد مصر، وفي أخرى كنت أشرح الأفكار ذاتها لأنطونيو جوتيرش؛ أمين عام الأمم المتحدة، خلال مراسم تسليمه جائزة لي. عجيبة هي الأقدار وألاعيبها؛ كأنما طُويت حياتي وكُثفت، فمنحتني بسرعة كثيراً من السعادة والتوفيق، كما انهارت على رأسي بنفس السرعة. كنت مراراً أصغر صحفي في صحف وقنوات عملت بها، كما أنني الآن أصغر مقيم في جناح الرعاية الخاصة بمرضى السرطان في ذلك المستشفى البريطاني. عبر ذلك المسار كله، تغيرت داخليّاً وخارجيّاُ، حتى إني أُدهشُ اليوم من شكلي في المرآة. تبدلت الكثير من قناعاتي، كما تغيرت من حولي الوجوه والعوالم، لكن ما لم يتغير قط هو بحثي عن ذلك الضوء الذي يشع من الأرواح الطيبة؛ ضوء التعاطف مع الإنسان من حيث كونه إنساناً قبل أي شيء آخر.”
بما إننا دلوقتي في أيام معرض الكتاب، فـ إحنا بنرشح لكم كتاب “أنا قادم أيها الضوء” لمحمد أبو الغيط الصادر عن دار الشروق.
من أسابيع قليلة، توفى الكاتب الصحفي الكبير محمد أبو الغيط بعد رحلة في الدنيا قصيرة في الوقت، لكن كبيرة جدا في الإنجازات.
محمد أبو الغيط توفى بعد معاناة كبيرة مع مرض السرطان، وفي خلال الرحلة دي كتب “أنا قادم أيها الضوء”.. كتاب عن تجربة القرب من الموت.. واحدة من التجارب الإنسانية اللي بتهم كتير من الناس، وناس كتير صورت تجربة اقترابهم من الموت زي ما يكونوا ماشيين في نفق مظلم، آخره فيه نور، وبيستعيدوا خلال رحلتهم في النفق ده ذكرياتهم وأحلامهم، لحد ما يوصلوا لنقطة النهاية عند النور.
أبو الغيط شاف إن النور ده خارج من كل إنسان بيحب الخير وبيقدمه بدون مقابل غير الحب، وبيأكد إن النور ده مصدره الجوهر الإنساني أو الضمير اللي ممكن نلاقيه في أي إنسان بغض النظر عن لونه أو جنسه أو دينه.
أبو الغيط حكى في كتابه عن نور الاقتراب من الموت والنور اللي شافه طالع من قلب مراته وصحابه والناس اللي حواليه في سنته الأخيرة بعد ما تأكد من إن مرضه ملوش علاج معروف، وهو بيحكيلنا بيلاقي نفسه -زي ما بيقول- بيحكي سيرته الذاتية وبيحكي معاها عن الأحداث اللي بتحصل حواليه، فبيتحول الكتاب لسيرة جيل كامل وفترة مهمة من تاريخنا عاشها أبو الغيط وحسها وفهمها وتأثر بيها.
ناس كتير بتتألم في صمت.. مش بيبقى عندهم موهبة إنهم يحولوا آلامهم لكلمات.. لكن محمد أبو الغيط كان عنده الموهبة دي.. فضل طول سنين حياته مسخر الموهبة دي في الصحافة لنصرة الحق وإنه يقول الصدق، وبعد كده سخرها علشان ينقلنا آلام مرضى السرطان ومشاعر المرضى اللي بيتألموا..
حكى لنا بأسلوبه الجميل إزاي بدأ الموضوع من أول حلم متكرر بيجيله إن فيه شوك في بوقه.. وكل ما حاول يشيل شوكة اتألم أكتر.. وفضل الحلم يتكرر لحد ما في مرة بلع الشوك ده والألم راح.. واكتشف مرضه.. حكالنا عن رحلة علاجه.. وعن أبوه وأمه.. عن مراته اسراء وقصة حبهم.. عن ابنه يحيى.. عن حبه وتعلقه بالزراعة والخضرة.. عن الثورة.. عن حياته برا مصر.. والنظام الطبي في أوروبا.. وحاجات تانية كتير.
بنتعلم كمان من الكتاب شوية حقايق عن المرض الخبيث.. محمد أبو الغيط في الأساس دكتور قبل ما يبقى كاتب.. وفي رحلة علاجه خاض تجارب كتير، فيه منها اللي معروف ومشهور، وفيه منها اللي كان تجريبي وماحققش انتشار.. حاول يمشي في كل طريق على أمل إنه يشفى.
“وكذا غدر نوائب الدهر، وعجز الإنسان، فلا أمان لتصاريف الأقدار، ولا اطمئنان لتقلبات الأحوال، فتأمل..”
(لماذا أكتب؟)
بيبدأ أبو الغيط الإجابة من كهف كوسكور في مارسيليا، اللي تم اكتشاف نقوش بشرية فيه ترجع لـ 27 ألف سنة.. الإنسان اللي ساب النقش ده على الكهف كان بيتحدى الموت بإنه يسيب أثر له في الدنيا حتى بعد رحيله، بيحلم بالخلود من خلال الكتابة.
“الكتابة هي محاولتي لمغالبة الزمن والموت بأن يبقى اسمي أطول من عدد سنوات حياتي التافهة مقارنة بعمر الكون الشاسع المقدر حاليا بـ 14 مليار سنة!”
الكتابة عند أبو الغيط محاولة للتمسك بالحياة والدفاع عن الشرف. العلم كمان بيقول إن الكتابة علاج وبتهون على اللي بيكتب، أبو الغيط كان بيكتب لأن الكتابة ببساطة بتديله شعور أفضل.
أخيرا أبو الغيط بيقول إنه بيشعر إن الكتابة إفراز طبيعي منه ملوش تفسير زي النحلة ما بتطلع العسل. الكتابة قبس من نور أبو الغيط الداخلي.
(كم أنا محظوظ!)
أبو الغيط بيقول إنه عاش حياته مؤمن بإن السعادة إرادة، بمعنى إن إحنا منقدرش نتحكم في الأحداث السيئة اللي بتحصلنا، لكن نقدر نتحكم في نفسنا وبنشوف الدنيا إزاي وندور على السعادة وسط الحزن. وسط الألم أبو الغيط حكى كتير عن الحب اللي تلقاه من الناس فترة مرضه.
(صديق جديد: النسيان)
مريض السرطان مش مقاتل بالضرورة والسرطان مش معركة، مريض السرطان مريض، والسرطان مرض ممكن ميديناش فرصة نقاومه. ده درس مهم بيعلمهولنا أبو الغيط علشان منخجلش من ضعفنا، وحتى من الاعتراف بضعفنا.
“قد تهبط الكارثة فجأة علينا. وقد نحملها داخلنا منذ الميلاد دون أن نعرف. لا حيلة لنا في ذلك. كما لا حيلة لنا أمام كثير من المآسي؛ الفراق، والضعف، والموت. لا حيلة لنا بمشاعرنا. لكن لنا حيلة بأفعالنا، أو على الأقل في السعي لذلك، دون ضمان النجاح”.
(يا حياتي الطبيعية.. عودي)
– في نوفمبر 2021.. محمد عمل جراحة استئصال المعدة كخطوة ضرورية في مسيرته العلاجية. المعدة عضو لا غنى عنه في جسم الإنسان، التخلي عنه معناها فقدان الحياة الطبيعية للأبد. ومع استئصال المعدة، تم استئصال الطحال، والجزء الخارجي من البنكرياس. شرب المياه بقى عذاب.. الأكل بقى بحساب.. نظام غذائي مختلف تماما عن العادي.. محمد بيوصف تعامله مع المعضلة دي وبحثه عن الطريقة اللي يغير بها طعم المياه وخصائصها علشان متألموش، وإزاي تغييرات في المياه ممكن تلعب دور في تخفيف معاناته ومساعدته على الارتواء من العطش، أو تحول يومه لجحيم، ونفس الكلام مع أشكال التغذية الجديدة كلها، واستمرار نقص الوزن، وتمسكه بالحياة حتى اللحظة الأخيرة رغم ضعف الأمل في الشفاء.
محمد بيعلمنا درس مهم، وهو تقدير قيمة حياة الإنسان الطبيعية، نعمة القدرة على الأكل والشرب والإخراج، والحياة اليومية البسيطة.
محمد مثلا كان بيستمتع بحاجة زي ترتيب القمامة لأن المكان اللي هو كان عايش فيه قائم على نظام دقيق للقمامة، فيه ٣ صناديق خارج كل منزل، صندوق أزرق للقمامة القابلة لإعادة التدوير، وصندوق أسود للقمامة غير القابلة للتدوير، وصندوق أخضر للقمامة العضوية زي بقايا الطعام. محمد كان بيستمتع بتوزيع القمامة والأكياس بين الصناديق الثلاثة وبيحس إنه بكده بيساهم في قضية كبيرة زي قضية حماية البيئة. والمرض منعه إنه يقدر يعمل النشاط البسيط ده.. زي ما بدأ يمنعه من غسيل المواعين ومشاويره مع ابنه يحيى وكل تفاصيل الحياة الصغيرة.. إزاي ممكن المرض يمنعنا عن تفاصيل يومية مملة نكتشف إنها مهمة جدا بعد ما نمرض.
“لا أعرف المعنى في ألمي، لكني أعرف المعنى في مقاومته”
(شمس وقمر في مهمة انقاذ)
محمد اتكلم عن أبوه وأمه، حكالنا عن مقابلتهم لبعض وتأسيس البيت الدافي اللي اتولد فيه، والقيم والأخلاق والمباديء اللي اكتسبها منهم.. حكالنا عن أبوه اللي بيحب الخير، وأمه القريبة من ربنا.. أمه اللي قالها الدكاترة إنها مش هتعرف تخلف، فقعدت تدعي ربنا، وكانت نتيجة دعائها.. محمد أبو الغيط..
(وردتي البيضاء الخارقة)
محمد في أيامه الأخيرة كان بيعاني بشدة من مضاعفات مرضه الخبيث، انسداد الأمعاء المتكرر، القيء المستمر، العدوى العنيفة الي بتدمر محاولاته إنه يرجع لحياة شبه طبيعية مع أسرته. وفي كل ده بيلاقي إسراء، مراته، جنبه طول الطريق، مش بمجرد التعبير عن الحب والأمان والونس، لكن بقوتها وذكائها في الوقوف جنب حبيبها بدون ما تضعف أو تنهار.
“في تلك الليلة قبل النوم قالت لي إسراء فجأة وبكل هدوء: إذن فلتفكر ماذا تريد أن تفعل في الوقت المتبقي؟ هل هناك مدينة تود زيارتها. أكلة تريد تذوقها؟ كيف أساعدك لنمنح ابننا ذكريات سعيدة؟ في ذلك اليوم، لمحت الضوء في عينيها. ضوء جمال الجوهر الإنساني”
محمد أبو الغيط فضل متمسك بالأمل لحد آخر أيامه وآخر كلماته وآخر كتابه.. كان بيحلم يعيش ويكبر ويشوف ابنه بيكبر قدام عينه.. ويقرأ الكتاب بعد سنين مع ابنه لما يكبر.. الشيء المشترك الوحيد بين كل صفحات الكتاب، إنه كان كلُّه أمل وتفاؤل وكان عايز يعيش رغم إنه كان واقعي جدا وواعي لحقيقة مرضه وإنه مالوش علاج أو حل. محمد كان بيقاوم المرض عن طريق الاعتراف بضعفه الإنساني مع إيمانه بقدرته على المواجهة والتحدي.
ومن رحلة المعاناة والمرض.. قدملنا أبو الغيط كتاب “أنا قادم أيها الضوء” علشان يبقى ضوء لكل اللي محتاجه.
“هذه صيحتي: محمد أبو الغيط مرَّ من هنا…”