” بولا بولا بالومبيلا”
- في نص الثمانينات وتحديداً سنة 1986، ورغم إن وقتها تقريباً ماكنش فيه فضائيات؛ انتشرت بشكل سريع أغنية “بولا بولا بالومبيلا” اللي كانت بتغنيها طفلة اسمها “نادين” ومعاها كورال من الأطفال.. أغنية لطيفة، وعايشة لحد دلوقتي ومرتبطة بطفولة معظمنا!.. في إبتدائي في أوائل التسعينات قررت مِس “رانيا” مشرفة النشاط الفني في المدرسة إنها تخلينا نغني استعداداً لحفلة نهاية السنة.. قبل نهاية كل سنة دراسية كان بيبقى فيه حفلة فنية بيشارك فيها طلبة كل فصل بـ عمل فني!.. فصل يعمل مسرحية، فصل تاني يعزف على آلات موسيقية، فصل تالت يغني أغنية، ورابع يقدم استعراض، وهكذا.. الفصل بتاعنا حسب تقسيمة مِس “رانيا” كان هيغني!.. تمام وماله، هنغني إيه؟.. هتغنوا أغنية “بولا بولا بالومبيلا”.. أو بالنطق الصحيح بتاعها “فولا فولا”.. تمام برضه هنغنيها بالعربي صح؟.. لأ هتغنوها بالعربي، بالإنجليزي، وبالإيطالي!.. لأ لحظة!.. إيطالي!.. أهو زى ما سمعتوا كده بالظبط الأغنية اللغة الأساسية بتاعتها إيطالي وعربي وهنترجمها إنجليزي وهتتغنى بالـ 3 لغات.. فيه 3 منكم هيغنوا، والباقيين هيبقوا كورال هيرددوا وراهم.. مين التلاتة؟.. “إنجي” بالعربي، “أحمد مرسي” بالإنجليزي، و”تامر” بالإيطالي.. كان فيه واحد تاني معانا في الفصل اسمه “تامر” وكان واقف قريب مني وهى بتتكلم.. بمجرد ما قالت الإسم بصيت له وحطيت إيدي على بوقي عشان أكتم ضحكة تريقة لإن أكيد هو المقصود.. “تامر عبده”.. قالتها مِس “رانيا” بسرعة كإنها بتصحح غلطة أو كإنها حاجة مفروغ منها!.. سألت بـ رعب: (تامر أنا؟!).. ردت ببساطة: (فيه اتنين تامر عبده هنا؟).. قولت: (يا مِس أنا مش عارف الأغنية ولا أعرف إيطالي، إشمعنى أنا!، وأنا صوتي وحش أصلاً!).. ردت وهى متجاهلاني وبتوجه كلامها للفصل كله: (هتلحقوا تتدربوا معاكم لسه شهرين كاملين).. شهرين إيه بس وبتاع إيه!.. طب خليني من الكورال.. لأ.. حاولت أبدل مع “إنجي” أو “أحمد” إني أغنى عربي أو إنجليزي وهما ياخدوا الجزء بتاعي بس كل حد فيهم كان بيرمي الموضوع عليا كإنه تهمة.. كان الحل الوحيد المتاح هو إن كلمات الأغنية تتحفظ حفظ زى ما هى بالشكل والنطق ومخارج الألفاظ!:
Vola vola palombella
prima che scompaia la mia stella
e un bacino sulla fronte
porta al sol che spunta all’orizzonte
e se un chicco d’oro ti darà
un chicco di felicità
me lo presti amica bella?
المشكلة إني كنت بقف وبعطل بعد أول جملة “فولا فولا بالومبيلا” والحروف بتدخل في بعض بعد كده وبتهته زى العيال.. كل يوم بيفوت من الـ 60 يوم كنت بتأكد إني هكون مسخرة الحفلة.. يوم جر يوم وحاولت خلالهم كذا مرة بس كنت بفشل.. باقي 45 يوم.. كنت متعود إن والدي الله يرحمه هو اللي بيذاكرلي.. عادة فضلت مستمرة من إبتدائي يمكن لحد جامعة بس اللي اختلف إن في إبتدائي كان عنده إلمام باللي باخده في المدرسة سواء رياضيات أو علوم لكن لما تخصصت في كلية آداب بقت مذاكرته ليا قائمة على فكرة التسميع بس!.. حكيت له.. قالي هنحفظها سوا!.. تعالا يالا واحدة واحدة قول كده بالراحة وبدون توتر.. “فولا فولا”.. تمام كمل.. “بالومبيلا”.. حلو ما أنت كويس أهو ها كمل.. “بري مااا شِي سكووم بيا لااااميا استيلا”.. سأل بصدق: (ده نوبي؟).. جاوبت: (نوبي إيه بس يا بابا!).. قال: (ما هو لو مش نوبي يبقى كلام سحر).. يادي النيلة.. بدأ والدي شوية بشوية ولما فهم اللي فيها وعرف إن ده طريق نهايته سد؛ يشيل إيده من القصة كلها، ويكتفي بالتشجيع مش بالتسميع!.. أنا واثق فيك.. أنت هتقدر.. بلاش توتر.. خليك هادي.. ماشي يا عم “عبده” خلعت نفسك أنت.. الحقيقة إنه ماكنش بيكتفي بس بكده لكن برضه ساعدني بزاوية تانية لما راح اشترى شريط كاسيت عليه بس الجزء الإيطالي من الأغنية بصوت “نادين” وبيتكرر ورا بعض لمدة ساعة إلا ربع!.. كل ما يخلص يتعاد وهكذا على الوشين ولحد النهاردة مش عارف هو جاب الشريط ده منين أو عمله إزاي!.. اللجلجة والتهتهة بدأت تقل عندي تدريجياً بس بدون ما تختفي!.. باقي 25 يوم.. طلبوا هو كان عايزني أركز قدر الإمكان، وبيحاول بإمكانياته اللي في إيده هتخلص الحفلة بتاعتك وهنطلع كان مطلوب مننا برضه قبل الحفلة إننا نعمل بإستخدام أدوات الرسم نماذج فنية.. طلعت في دماغي اعمل كرفاتة بذمتك ده إيطالي؟).. طلعت في هنغني.. أبويا بيكرهني، ومش بيحبني وفيه مليون طريقة أحسن من كده يعاملني بيها.. ده اللي كان ظاهر ليا كـ طفل.. طب والمستخبي؟.. إن كان عنده مشكلة كبيرة في الشغل متوقف عليها استمراره فيه من عدمه.. طلبوا مننا في المدرسة إن كل واحد فينا يعمل عمل فني باستخدام الورق المزركش الشفاف الملون.. أى شكل فيه محاكاة لحاجة موجودة حوالينا.. شكل كوباية.. حيوان أليف.. كورة.. وش بني آدم.. أى حاجة.. في الفترة دي أنا كنت موهوم بـ فكرة الكرافتة.. بحب تقسيمتها، وألوانها، والتعقيدة اللي في ربطتها.. قولت أنا هعمل بالورق المزركش كرافتة.. عملتها.. طبعاً كانت أبعد ما تكون عن شكل أى كرافتة تكون شوفتها في حياتك.. مجرد ورق مزركش أحمر وأخضر وأصفر داخلين في بعض وعاملين سوا حاجة مكعبرة مالهاش أى شكل ولا لون ولا طعم.. وريتها لـ والدي.. سألته عن رأيه.. جاوب وهو بيحاول يكتم ضحكة تريقة بس كنت لمحتها: (حلوة).. سألت: (بجد؟).. رد: (حلوة بجد).. وراح مغير الموضوع!.. باقي يومين على الحفلة.. كان الاتفاق إن والدي ووالدتي وأخويا هيكونوا حاضرين.. قبلها بيوم سمعت حوار داير بينهم وهو بيقول لها: (البركة فيكي إنتي وهيثم تكونوا معاه، أنا حاولت بس مش هينفع والأجازة اترفضت).. قالت له بنبرة كان باين فيها الحسرة: (بس كده هيزعل!).. رد: (غصب عني والله).. والدتي اتنهدت.. كمل كلامه: (وبعدين ده قال لك إنهم بلغوهم إن اللي هيحضر لازم يكون لابس بدلة وأنا ماليش في جو الخنقة دي!).. قولت بيني وبين نفسي يبقى هو ده السبب يا والدي العزيز مش فكرة الأجازة اللي اترفضت ولا حاجة.. تمام تمام.. صباح يوم الحفلة اعتذرلي عن الحضور بنفس الحجة اللي ماكنش عارف إني عرفتها من ساعات وأنا تقبلت الموضوع عادي بس كان جوايا تصميم غريب إني لازم أكون مميز في اليوم ده عشان أثبت له إني قدها.. في البروفة النهائية قبل الحفلة بساعة ونص كان بدأ موضوع اللجلجة، والتهتهة يرجع لي تاني!.. عرق.. رعشة في الإيد.. الوقت بيمر.. يالا الستارة هتفتح.. كنت أنا اللي هبدأ.. المقدمة الموسيقية اشتغلت.. الثواني بتفوت.. غنيت!:
Vola vola palombella
prima che scompaia la mia stella
e un bacino sulla fronte
porta al sol che spunta all’orizzonte
e se un chicco d’oro ti darà
un chicco di felicità
me lo presti amica bella?
المفروض إني بكرر الفقرة كلها مرتين ورا بعض.. المرة الأولى خرجت مني بمنتهى التخبط والقلق لدرجة إن أى حد سمعني بنسبة مليون% كان فاكر إني لسه حافظ الكلمات من 5 دقايق بس.. تقدر تفهم مأساوية الوضع لما تعرف كمان إني كنت سامع صوت ضحك من الكورال اللي ورايا!.. بمجرد ما خلصت آخر كلمة في الفقرة الأولى سمعت صوت تسقيف حماسي وحيد جاى من الصف التالت.. شخص ما قام فجأة ووقف وبدأ يسقف!.. كان والدي الله يرحمه!.. وزى نفس اللي حصل بالظبط بعدها بكذا سنة في فيلم “مافيا” في المشهد الأخير حصلت عدوى تسقيف من كل الموجودين اللي قلدوا أبويا لما حماسه اتنقل لهم، وبقى فيه فِرة تسقيف وراه!.. ما أخدتش وقت طويل عشان أنتبه إن أبويا كان لابس بدلة!.. ولابس فوق قميصه الكرافتة الملونة التافهة اللي من الورق الشفاف المزركش اللي أنا عملتها!.. الوقفة بتاعته قدامي والكلام اللي عيونه كانت بتقوله خلّوني أقول الفقرة التانية بشكل عظيم يمكن أحلى من اللي “نادين” نفسها كانت بتغنيه!.
- الأب هو البطل الأول والأوحد في قصة كل واحد فينا.. السند اللي لا يستقيم الظهر إلا بوجوده.. أول صديق لـ إبنه، وأول فارس أحلام لـ بنته.. الحب الوحيد اللي مش هتندم عليه هو حبك لـ والدك، والراجل الوحيد اللي هيقدملك بدون مقابل هو والدك.. العلاقة حتى وإن تخللها بعض التوتر أو نقاط الخلاف هيظل هو صاحب الأثر الأكبر في ابنه سواء بالسلب أو بالإيجاب.. مع كل زنقة محرجة أو موقف صعب أو سؤال هيظهر الأب كـ إجابة شافية وافية متحملة بكل اللي يريح البال ويأكدلك إنك بخير.. الأمان اللي بعد غيابه مش بترجع الدنيا لـ قبله تاني.